جدلية الحرية والنظام العام في زمن الوباء

مقدمة:

ينطوي تحليل العلاقة الموجودة بين النظام العام ومجال الحرية على صعوبات منهجية بالغة، تعكسها طبيعة التوترات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي رافقت تطور الدولة الحديثة؛ لذلك تميز كلا المفهومين بالمرونة نتيجة اختلاف السياقات الاجتماعية والسياسية من حقبة تاريخية إلى أخرى.

يجب الإقرار منذ البداية بالعلاقة الجدلية القائمة بين ممارسة الحرية وحفظ النظام العام؛ لذلك فالحرية كقضية فكرية، فلسفية، سياسية، إنسانية خالدة، تحتاج دوما إلى تحليل دقيق لسبر أغوار الأسئلة المرتبطة بالممارسة الفعلية في علاقتها بالتمثلات الاجتماعية السائدة، وتقديم إضاءات بشأن إقامة توازن بين الحرية و النظام العام الذي يحيق بها. فمن خلال ملاحظة ما عشناه خلال فترة تفشي فيروس كورونا من أحداث، وما اتخذته الحكومة من قرارات اتسمت بشيء من الارتجال، تبدو الكثير من تفاصيل العقد الاجتماعي في حاجة إلى إعادة النظر، وفقا لما فصّله الفيلسوف “جون جاك روسو” في نظرية العقد الاجتماعي، الذي يؤسس لعلاقة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم، قائمة على جملة من التنازلات من طرفي العقد.

 وكم كان حري بنا أن نستفيد، ليس فقط من بعض التنازلات من جهة الحكومة والتي يفرضها واقع الجائحة، ولكن لينع المواطن ببعض حقوقنا، ولا سيما الحق في الحصول على المعلومة الصحيحة بشأن الحالة الوبائية دون تهويل أو تخويف، والحق في الرعاية الاجتماعية والأمن القانوني، وتأمين الحق في اللجوء إلى القضاء باعتباره ضمانة أساسية من ضمانات دولة الحق والقانون، والحق في التظاهر السلمي، لأننا في غالب الأحيان نوهم أنفسنا أن وجودنا مرتبط بعمق تفكيرنا، في محاولة لتجسيد فكر الفيلسوف “ديكارت” في ما سمي بـ “الكوجيطو” الذي يؤسس له الجملة الأكثر شهرة “أنا أفكر إذا أنا موجود”. فكيف إذن، يمكن قياس مستوى حرية الفكر بهذا المعنى في زمن الوباء؟ وفي أي مستوى من التفكير يمكن الحديث عن الوجود الإنساني الفعلي؟