هجرة الكفاءات المغربية ومعضلة البحث العلمي

مقدمة:

حيّرنا من اكتشف فجأة أهمية البحث العلمي عندما لزم الناس بيوتهم خوفا من عدوى “فيروس كورنا المستجد”. متى تسللت إلى أذهاننا فكرة أن صناعة اللقاح أو الدواء أو تحسين مناخ الإبداع يستلزم التسلح بحسن النية أو الاتكال؟ كما أدهشنا من كان يُقوّي معارفه بقراءة سرديات التحكم والمؤامرة. انتبهنا -ولو بشكل متأخر- إلى ما تستطيع الدولة فعله إن هي راهنت على الموارد الذاتيةطبيعية كانت أو بشرية. هل استوعبنا الدرس جيدا؟ العلم قوة، والدولة سنده ومحركه. من خلال أجهزتها المختصة تحدد الميزانيات الموجهة لكل قطاع، وتسن القوانين، وتنفذها، وتحكم في النزاعات بين الناس. أليس بإمكانها والحالة هاته أن تحتضن الذكاء وترعاه؟ ألا تستطيع، بالاستناد إلى شهادة التاريخ والواقع، أن تُبقي هذا الذكاء بالداخل أو تستثمر فيه بالخارج، أو تربي النفوس على التطلع إليه والاقتداء بأهله، أو تزرع في العقول الافتخار به وتحفيزه أو العكس؟

من حسنات هذا الظرف الاستثنائي أن نسمع أن وزير الصناعة والتجارة والاقتصاد الرقمي، التقط بعد عقود من الانتظار والاتكال، هذا الدرس الواقعي في مدة قصيرة من “الاعتماد على الذات والرجوع إليها”. قال في هذا السياق:”لكي أكون معكم صريحا، منذ سنوات وأنا أتابع عدة قطاعات،ما لاحظته خلال فترة الجائحة لم أكن أتخيله قبل ..كان لدي صراع قوي مع رجال أعمال يقولون إن البلد لا يزخر بمؤهلات ولا يتوفر على قدرات، والناس يعتبرون أن كل المنتوجات المستوردة من الخارج ستكون ذات قيمة عالية”، أضاف: “هل يلزمنا شهادة من الخارج حتى نثق بقدراتنا وأن نشتغل بشكل جديد؟….أتمنى أن نعي قدراتنا وأن نشتغل بجد لأن الطريق الذي يجب أن نسلكه في الشهور والسنوات المقبلة مهم جدا.[1]

يستفاد من هذا الجواب ثلاثة أمور مهمة، أولها حصول وعي متأخر بما يمتلكه المغرب من مؤهلات وثروات مادية ولا مادية، وثانيها عدم ثقة المستثمرين المغاربة والأجانب في المنتوج الوطني بمبرر ضعف تصنيعه بالمقارنة مع جودة المنتوج المستورد، والأمر الثالث الاعتقاد بضرورة الاستثمار في القدرات المحلية لسلك طريق مغاير مستقبلا. تعود بي هذه الرسائل مجتمعة إلى ما ظل المهدي المنجرة رحمة الله عليه يردده لسنوات: “أزمة الدول المنتمية لهذا العالم معروفة منذ عقود (يقصد العالم العربي والإفريقي)، وهي أن النموذج التنموي الذي تم اختياره من طرف المسؤولين، هو عدم الاعتماد على الذات، واللجوء عوض ذلك إلى المساعدة الفنية والتعاون الدولي، في حين أن الحل الوحيد هو الاعتماد على النفس وخلق النموذج التنموي الذاتي.[2] هل هي دعوة للانغلاق كما قد يفهم البعض؟ أبدا، العمل الجماعي ضرورة لصقل الخبرات وتكاملها، الاتكال على الغير ودفع الخبرة الوطنية، عن قصد أو جهل، إلى الاغتراب أو التأقلم مع القائم تكريس للتخلف ليس إلا.

في إطار هذا الدرس المعيش تنبثق إشكالية جديدة/ قديمة تتمثل في هجرة العقول-أو نزيفها من باب التدقيق-. بداية، يذكرنا هذا اللفظ بالتعبير الصحافي الذي أطلق في نهايات الستينيات من القرن الماضي[3] بعد أن بدأت بلدان غربية مصنعة، كما هو حال إنجلترا وكندا، تفقد بعض كفاءاتها المواطنة لصالح دول غربية أخرى في حالة اقتصادية أفضل مثل الولايات المتحدة الأميركية.[4] اليوم، يحيل على كل هجرة يقوم بها العلماء والفنيون والمتخصصون المهرة الذين يتميزون بخبرة وتأهيل عالفي مختلف الميادين الإنسانية والتقنية، من بلد إلى آخر طلبا لرواتب أعلى أو التماسا لأحوال معيشية أو فكرية أفضل.[5] ولأن هجرة الكفاءات” أو العقول Brain Drain لا تكون “فرصة” إلا حينما تكون الهجرة ظاهرة طبيعية تساعد على توسيع الخبرة والاطلاع على الثقافات والحضارات الأخرى وتنعكس إيجابيا على المجتمع الذي خرجت منه هذه المجموعات، فإنها تصبح خطرا واستنزافا عندما تتحول إلى ظاهرة مجتمعية تسبب نقصا في الطاقات البشرية المتميّزة والقادرة على إحداث التغيير في المجتمع سواء في جانبه الاقتصادي وليس المالي فقط، أم جانبه الثقافي والفكري، أم جانبه الإداري. على هذا النحو، يجدر التنبيه إلى أن عدم توفير الظروف الملائمة التي تجتذب أصحاب الكفاءات وتحفزها على البقاء يشكل إحدى المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها البلدان النامية أو التي تسير في طريق النمو، منذ أن باشرت هذه البلدان بوضع البرامج للنهوض بأوضاعها المتردية الموروثة عن عقود طويلة من الحكم الاستعماري والهيمنة الأجنبية.[6]


[1] مقتطف من جواب حفيظ العلمي وزير الصناعة والتجارة والاقتصاد الرقمي في جلسة الأسئلة الشفوية الأسبوعية في مجلس النواب، شوهد في  :21/05/2020،:

https://cutt.us/Yn2P6

[2]المهدي المنجرة، قيمة القيم، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 2007، ص .294

[3]“هجرة العقل العربي: دور العقول العربية في جعل أمريكا وأوروبا أكثر ابتكارا”، ملف مجلة فكر الثقافية، العدد 21، نونبر 2017 ويناير 2018، ص .8

[4]نادر فرجاني، هجرة الكفاءات والتنمية في الوطن العربي، المستقبل العربي، العدد 80، 1985، ص .79

[5]“هجرة العقل العربي: دور العقول العربية في جعل أمريكا وأوروبا أكثر ابتكارا”، م. س، ص .8

[6]“الأدمغة العربية المهاجرة: خرج ولم بعد! “، نشرة أفق، مؤسسة الفكر العربي، شوهد في:22/05/2020، في:
http://bit.ly/2vR4KSd