قراءة في كتاب حراك الريف: ديناميات الهوية الاحتجاجية

Reading in a book: rural mobility: the dynamics of the protest identity, by researcher Mohammed saadi

ملخص: يندرج الكتاب ضمن الكتابات التي تدافع عن سياسات الاعتراف والتعددية الثقافية التي ظهرت رداً على سياسات الدولة الوطنية، هذه الأخيرة التي عملت على بناء الهوية القومية استناداً لهوية الأغلبية المسيطرة، وإقصاء ثقافة الأقليات وتهميشها سياسياً واقتصادياً، لهذا استعمل الباحث مفهوم الصراع من أجل الاعتراف لدى الفيلسوف أكسيل هونيث كمدخل لفهم حراك الريف وما ينتج عنه من تمسك بالذاكرة الجمعية في صراعها من أجل انتزاع الاعتراف.

       والكتاب هو دراسة ميدانية مهمة في مجالها، اعتمدت السيميائية الاجتماعية التي تبحث في دلالات الرمز والعلامة، وكذا المعاش اليومي الذي يبحث في السلوك والممارسة وأشكال التعبير الاجتماعي، وهي من الكتابات القليلة في الموضوع لوجود قيود سياسية.

الكلمات المفتاح: الهوية، الذاكرة الجمعية، الصراع من أجل الاعتراف، الديمقراطية، التعددية الثقافية.

Summary: the book is among the writings that defend the policies of recognition and the multiplicity of cultures that appeared in response to the policies of the national state; which worked to build a national identity based on the identity of the majority, excluding the culture of minorities and their political and economic marginalization. For this reason, the researcher used the concept ” the struggle for recognition” by the philosopher Axel Honnith as an introduction to understanding the rural mobility, and its results like the adherence to the collective memory on its struggle with the existing political system.

This book is an important field study, it adopted social semiotics which examine the implications of symbol and sign as well as the daily pension that examines behavior, practice, and social expressions, and it is one of the few writings in this topic because of the political restrictions.

key words: identity, collective memory, the struggle for recognition, democracy, multiculturalism.

  1. تعريف الكتاب:

       الكاتب هو الدكتور محمد سعدي، أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية بكلية الحقوق، بوجدة. يتكون الكتاب من 308 صفحة بالقطع المتوسط بالفهرس والبيبليوغرافيا، صدرت له الطبعة الأولى في أكتوبر 2019 عن دار سليكي أخوين “طنجة”. يحتوي في المجمل أربع فصول رئيسة؛ سؤال المثقف وعلاقته بما يقع داخل المجتمع المغربي. ثم التأصيل النظري لحراك الريف؛ محاولة لفهم الحراك وتداعياته من خلال مفهوم الصراع من أجل الاعتراف لدى الفيلسوف أكسيل هونيث. وفصل حول حجم الانتهاكات التي تعرضت لها المنطقة، التي لازالت المحرك الأساسي للذاكرة الجمعية الريفية في غياب مصالحة حقيقية. وفصل حول تعابير المرح والتضامن بين ابناء الريف في محاولة للتعويض عن المفقود وتحقيق التماسك الاجتماعي.

       الكتاب هو دراسة سوسيولوجية ميدانية، اعتمد فيها الباحث على السيميائية الاجتماعية التي تبحث في الرمز الصورة والوثائق والكتابات الحائطية “Graphiti[1]،  وكذا اعتمد على دراسة مقاطع غنائية وأشعار توثق اللحظة والتي تحمل دلالات رمزية مهمة. كل هذا والباحث يمشي وسط الحراك يتلمس وجوه الناس ويعيش وسطهم يلاحظ تعبيراتهم المنطوقة وغير المنطوقة. كما اعتمد الباحث في دراسته على اليومي المعيش المتصل بذاكرة وتاريخ الجماعة، الذي يجسد في عمقه الأسباب والدوافع الكامنة وراء تشكل ظاهرة الحراك. هذه الذاكرة التي يتناقلها الأجيال عبر القصص والروايات والحكي الشفهي.

       كما اعتمد الباحث على المنهج التاريخي لتجسيد كل ما عانته المنطقة من انتهاكات ممنهجة، مستحضراً من التاريخ كل ما تختزنه الذاكرة الجمعية للريفيين من رموز ومقدسات ومعانٍ وتمثلات ثقافية حول الأرض والزعامات والنضال. واضعاً ذلك كله في ميزان الصراع من أجل الاعتراف الذي لم يتحقق. وما عانته وتعانيه الهوية المحلية من تهميش وتضييق وتغييب، الذي يزيد من تعلق أبناء المنطقة بالماضي، فيصَعب كل عملية مصالحة واندماج.

  • مقدمة:

         يعد الكتاب من الدراسات القليلة الموضوعية التي حاولت فهم ظاهرة الاحتجاج بمنطقة الريف بالاعتماد على الثقافة المحلية وتاريخ المنطقة، وبالاعتماد خصوصاً على مفهوم الذاكرة الجمعية كمدخل أساسي في فهم الظاهرة، مفهوم الذاكرة كما أسسها موريس هالبواش وطورها بيير نورَا في أعماله. واضعاً ذلك كله في ميزان الصراع من أجل الاعتراف من أجل تحقيق عدالة انتقالية.

     ينطلق الباحث محمد سعدي بدايةً من سؤال دور المثقف العربي عموماً والمغربي خصوصاً في مواكبته للقضايا الراهنة، ودوره في تأطير وتوجيه الجماهير، وموقعه داخل يقع من حراكات جماهيرية داخل الوطن. فدور المثقف يتعلق بالأساس بالكتابة في مواضيع الطبوهات الثلاث “الدين والسياسة والجنس”، وفي المقام الأول السياسة التي تثير حفيظة الأنظمة السلطوية.

        يقول بيير بورديو عن دور المثقف هو: “الذي يفسد على الناس حفلاتهم التنكرية”، فدور المثقف هو إعادة الاعتبار للقوى الحية داخل البلد بالوقوف الى جانب الجماهير، ودعمهم في اللحظات الحرجة، والتنظير لهم وتوجيههم، وليس بالبقاء في البرج العالي والنظر إلى الجماهير من أعلى أنها قاصرة عن الفهم والفعل، وهو ما وقع فيه المثقف العربي؛ فقد كان بعيد كل البعد عن اهتمامات المواطنين، بل بعضهم تفاجئ بخروج الجماهير فيما يسمى الربيع العربي، وبعضهم من فرط قلة ثقته في الجمهور اختيار الوقوف الى جانب الأنظمة المستبدة.

       ثم يواصل الكاتب البحث في تاريخ الذاكرة وما تختزنه من رموز ومعانٍ من خلال الشعارات التي رفعت في الحراك والكتابات على الحائط والأشعار، ثم تتبع مسار المصالحة في المغرب ومحاولات أبناء المنطقة انتزاع الاعتراف، ثم ميلاد القيادات في المنطقة من أمثال ناصر الزفزافي ونوع البيئة والذاكرة التي أنتجت مثل هؤلاء.

       إن مناقشتي للكتاب لن تكون من جانب علاقة العنف الرمزي بالعنف المادي أو العكس، أو سبب تعنت أصحاب القرار بإقصاء ساكنة الريف وعدم الاعتراف بتاريخهم وهويتهم، وهل التنمية يمكن أن تكون مدخلا للمصالحة في غياب الديمقراطية؟ بل سأناقش الكتاب من منطلق ما حققت هيئة الإنصاف والمصالحة من العدالة الانتقالية في المغرب، ودور المثقف في دعم الجماهير والوثوق بها. ثم علاقة الماضي بالحاضر في الحراك الاجتماعي وما السبيل لوقف نزيف الذاكرة؟ وللخروج من العنف الرمزي هل يكفي الاعتراف المادي؟  ولماذا لم يتحقق النسيان في الذاكرة رغم مرور سنين طويلة؟ وما علاقة السياسة الرسمية بالذاكرة الجمعية لمنطقة الريف؟

  • حراك الريف بما هو استدعاء للذاكرة الجمعية “Mémoire collective“:

        أول من كتب في موضوع الذاكرة الجمعية هو عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواش Maurice Halbwachs، حيث شكل أول انطلاقة حقيقية للاشتغال العلمي الرصين على الذاكرة الجمعية كبراديغم لفهم مجموعة من الظواهر الاجتماعية، “فعكس التصورات العلمية الكلاسيكية، والتي كانت ترى في عملية التذكر عملية شخصية داخلية ذات مهمة بيولوجية خالصة، نبَه هالبفاكس إلى وجود علاقة قوية بين التذكر الشخصي للفرد وبين المجتمع الذي ينتمي إليه”[2]، إن هالبفاكس جعل من الذاكرة مدخلاً مهماً لفهم العقل الجمعي وتطوره عبر التاريخ حول ثنائية الذاكرة والنسيان، وجعل من الذاكرة أداةً لفهم مجموعة من الظواهر الاجتماعي، “فمن أجل أن نتذكر نحتاج للآخرين”[3].

       إن عملية التذكر الفردية لا يمكن أن تنشأ أو تتحقق إلا ضمن إطار اجتماعي معين، حيث تنشأ ثقافة معينة تؤسس لنسق جمعي يجعل الخبرات والتجارب الذاتية للفرد قابلة للتذكر وللتأويل بصورة جمعية. “وهنا تبرز بجلاء وظيفة الذاكرة الجمعية، كما يراها هالبفاكس، وهي تأسيس هوية “جمعية” وضمان ديمومتها على اعتبار أن هذه الهوية المشتركة ماهي إلا نتيجة لتفسير مشترك للماضي الخاص بهذه الجماعة”.[4]ومنه فالذاكرة الجمعية هي تعبير عن هوية خاصة وثقافة جماعية في إطار سياق تاريخي معين.

       إلا أن الذي طور مفهوم الذاكرة الجمعية واستخدمه في دراساته هو المؤرخ الفرنسي بيير نورا Pierre Nora خصوصاً كتابه “أمكنة الذاكرة” “” Les Lieux de mémoire. كان هدف نورا هو تحديد الأماكن التي تبلور منها التراث الوطني الفرنسي والذاكرة الفرنسية.

         حيث “تعتمد الذاكرة الثقافية على تراكم المعرفة والخبرة والذكريات التي يتم تمريرها شفويًا أو مجازيًا أو كتابيًا؛ فهي تتشكل عبر التاريخ من التراث المادي كالآثار والكتابات والتراث غير المادي كالعادات والتقاليد. وأهم ما يميز الذاكرة الثقافية أنها مدونة طويلة الأمد من إنتاج جماعة بشرية محددة بهدف إعادة إنتاج هويتها، وتقوم هذه الجماعة البشرية بالسهر على تطبيق ورعاية تلك الذاكرة الثقافية”.[5]

       وبالتالي يمكن القول، أن الذاكرة الجمعية تتميز بأربعة أمور: أنها تمثلات جماعية، ويتم الحفاظ عليها عبر الأجيال عن طريق التواصل، وتلعب المؤسسات الاجتماعية دورا مهماً في الحفاظ على الذاكرة وإعادة إنتاجها. ثم تخضع للتأويل وإعادة قراءة الماضي وفق ما يقدمه الحاضر من رهانات.

       ومنه فالذاكرة الجمعية هي معرفة مشتركة على نطاق واسع، حول أحداث اجتماعية ماضية لم يتم عيشها بصورة شخصية، ولكن تم تشكيلها جماعيًا عبر أفعال تواصلية. هذه التمثلات المجتمعية أو المعرفة المشتركة حول الماضي تُرَكب وتُتَناقل وتُحفظ داخل المجتمع، عبر التواصل بين الأشخاص وكذا مع المؤسسات.

      تتطلب ذاكرة الجماعات بما هي تذكر للماضي ونسيان لبعضه في الحاضر؛ مصالحة الماضي بالحاضر وفق شروط ذاتية وموضوعية، شروط ذاتية تتبناها الجماعة المتذكرة، وشروط موضوعية يتطلبها الواقع وسياسات الدولة. إلا أن هذه المصالحة لا يمكن أن تتم دون وجود عدالة انتقالية وبناء للمشترك.

         لقد تعرضت بعض المناطق في المغرب ومنهم المنطقة الشمالية في فترة الاستعمار وبعده لانتهاكات جسيمة للحريات الفردية والجماعية ولحقوق الإنسان على مستويات متعددة؛ فزيادة على ما تعرضت له على يد المستعمر الإسباني من عنف مادي ورمزي، فإنه بعد الاستقلال تعرضت لانتهاكات أكثر جسامة، خصوصاً “سنوات 1958 و1959 والتي كانت جزءاً من محاولة الإدماج القسري للمقاومة وجيش التحرير، سيكون ثقلها كبيراً على الذاكرة الجمعية للمنطقة. من بين الانتهاكات أيضاً هو الخميس الأسود ومقتل التلميذين فريد أكروح وسعيد بودفت وقت انتفاضة الخبز 1987″،[6] ثم مقتل محسن فكري وإفلات المسؤولين عن الحادث من العقاب. ولقد وثقت جزءاً من هذه الانتهاكات بشكل رسمي هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004.

        فكل التهميش الذي تعرض له تاريخ المنطقة وأعلامها خصوصاً المجاهد الكبير عبد الكريم الخطابي وموته ودفنه بعيداً عن الوطن، وما تعرضت له المنطقة من محاولات كثيرة من أجل الإدماج القسري؛ كل هذا كان محاولة لطمس الهوية الريفية التي عرفت تاريخاً زاهراً من النضال والمقاومة، هذا الطمس سببه والمراد منه هو خلق تاريخ رسمي يتناسب وحجم منجزات النظام الحاكم في شخص فئة مهيمنة، مع تهميش مساهمات الأطراف الأخرى.

        في هذا الإطار يوضح ويل كيمليكا “Will kymlicka” أن السياسات التي نهجتها الدول القومية والتي كانت سبباً في إقصاء فئات مجتمعية واسعة هو: “اعتماد قوانين اللغة الرسمية التي تعترف بلغة المجموعة المسيطرة…، بناء نظام قومي للتعليم الالزامي ينحصر في السردية التاريخية والقومية للمجموعة المسيطرة)…(، اعتماد رموز الدولة والاحتفال بتاريخ الجماعة المسيطرة)…(، الاستلاء على المجال العمومي )…( “[7].

        إن الانتهاكات التي تعرضت لها المنطقة والتي لم يتم المصالحة معها، هي من تُحدث في كل مرة بعض الارتدادات فعل اتجاه الواقع والدولة )المخزن( المغربية، حيث يأتي حراك الريف في هذا السياق من أجل نزع الاعتراف وصنع مجال للتفاوض من باب خلق القوة الاجتماعية التي تفرض نظرتها على الواقع والتاريخ. فما يرصده الباحث محمد السعدي من استرجاع للذاكرة وحجم التذكر من خلال الشعارات والشعر والكتابات الحائطية ومن خلال الحوارات الجماعية، يجسد نوع البناء للذاكرة ونسبة التذكر مقارنة بنسبة النسيان.

           حيث يتم أحياناً التذكر الراديكالي للتاريخ في محاولات للتشبث به للرد على واقع متردي، ويتم أحيانا الاسترجاع الاختزالي للماضي والتعلق ببعض الاحداث الهامشية والتمسك بها من أجل مواجهة الحاضر. كما يتم الاعتزاز بالذات وتمجيد الهوية الجماعية عندما يمارس الواقع التهميش والاقصاء على الفرد والجماعة. لهذا من أجل مواجهة الآخر الراديكالي ومن أجل مواجهة السياسات الرسمية يتم الرجوع للذاكرة والتمسك بها تعويضاً عن المفقود وبحثاً عن الاستئناس. وهو ما سجله بعض الباحثين من حمل العلم الريفي والتمسك به رغم كل الانتقادات، والذي لم يسبق أن تم التمسك به والرجوع إليه في محطات نضالية سابقة.

         وكذلك يتم التعالي على الواقع والآخر من خلال الاعتزاز بالهوية الجماعية وتمجيد البطولات التاريخية والافتخار بالذات الذي يصل أحيانا لحد “العنصرية”، حيث رُفعت بعض الشعارات في الحراك من قبيل “انا ريفي، الريف لنا، الشعب الريفي العظيم، الدماء الريفية النقية، جيناتنا ليس كجيناتكم…”.[8] كل هذا يوضح ازدياد وتفاقم الوضع وتوسع الهوة بين الذاكرة الريفية والآخر، مما يزيد من صعوبة المصالحة وكل محاولات تحقيق العدالة الانتقالية.

  • بين استرجاع الذاكرة الجمعية ومحاولات طمسها:

         إذا كانت الذاكرة الجمعيّة  Collective Memoryهي “الأداء الجماعي لذاكرة مجموعة من الناس، وتتكون من ذاكرة الأفراد مجتمعة، وتشكل الأرضية المشتركة لسلوك تلك المجموعة. وتتضمن الذاكرة الجمعيّة الجوانب الثقافية والاجتماعية لتلك المجموعة من الناس، وتخلق بذلك صلة بين الماضي الثقافي والظروف الثقافية والاجتماعية الحالية”[9]، فإنها لا تستحضر طبق النسخة القديمة وبطريقة تامة، بل تقوم بإعادة بناء الماضي الجمعي والمشترك بكيفية انتقائية ووفق منظور وواقع محدد، فهي قد تختزل الماضي في بعض الأحداث المأساوية مثلاً وتتناسى الوقائع الإيجابية.

        هي بهذا المعنى تلبية هوياتية لرغبات الحاضر وتطلعات المستقبل ضمن جماعة معين ووضع ثقافي معين، فالذاكرة لا تقوم بإعادة إحياء الماضي، ببعث الماضي، بل تقوم بإعادة بنائه وتشكيله في زمن الحاضر ضمن جدلية الهوية والغيرية.  

      إن للعدالة الانتقالية قدرة كبيرة في “تركيب وإعادة تركيب الفرد والجماعة، ومختلف العلاقات بينهما تاريخيًا، وإمكانية رصدنا لهذه الإمكانات العلائقية من خلال رصد الطقوس نفسها”.[10]

          كل هذا يدفعنا للحديث عمّا يجب أن نتذكره وما الذي يجب أن ننساه لبناء هوية وطينة؟ أو ما المطلوب من النظام السياسي القيام به لتحقيق العدالة لانتقالية؟

     إن نقيض النسيان هو الاحتفاء؛ حيث تحتفي الذاكرة الجمعية بالأمكنة والآثار والساحات، وتقام الاحتفالات والنصب التذكارية التي تحمل ذكريات عن الأيام المجيدة والبطولات الكبيرة، والاحتفاء بالأزمنة المضيئة ممثلة بالمتاحف والأرشيفات والمقابر، والعمارات والأضرحة.

       فمثلا حول الذي يجب أن نتذكره يذكر م المؤرخ الفرنسي جول ميشليه “Jules Michelet”  (1798-1874) الذي كتب “نيابة عن موتى الثورة الفرنسية”: «أجل ما من ميت إلا ويترك ذاكرة Mémoire ويطالبنا بأن نهتم بها. أما من لا صديق له فيجب أن ينوب عنه القضاء؛ ذلك أن القانون والعدالة أشد ثقة من حنان النساء ومن دموعنا التي سرعان ما تجف. وهذا القضاء هو التاريخ”.[11]

       ويذكر أرنست رينان،  (1892–1823) Ernest Renanحول ما يجب أن ننساه: “والحال أن جوهر الأمة (الفرنسية) يتمثل في امتلاك جميع الأفراد أشياء مشتركة وفي أن لديهم أشياء ينسونها )…( فلا بد لكل مواطن فرنسي من أن يكون قد نسي سان برتيلمي في القرن السادس عشر ومذابح ميدي في القرن الثالث عشر”. [12]يعني بذلك الحروب الدينية التي اندلعت قبل الثورة الفرنسية بين الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية والتي خلفت ضحايا وآثار نفسية كبيرة في ذاكرة فرنسا.

        يضعنا هاذين الباحثين أمام صيغة مهمة لبناء الهوية الوطنية، وحول ما يجب تذكره من أحداث التاريخ وما يجب نسيانهم، فالأحداث التي تبني المشترك الوطني وتساعد على بناء القومية الوطنية، يجب تذكرها وتعزيزها والاهتمام بها وأرشفتها وتدرسيها للناشئة وإدماجها في التاريخ الرسمي. أما الأحداث التي تساهم في الشلخ وتقوي الفوارق وتحي الأحقاد، فيجب نسيانها وطيها وإخراجها من الذاكرات الجمعية.

        هذا ما قد يجعل استرجاع الذاكرة أحياناً لدى أبناء منطقة الريف يتم بطريقة راديكالية خصوصاً عندما لا تجد الظروف الملاءمة من أجل مصالحة الماضي بالحاضر، وللانفتاح والإقبال على الحاضر لابد من وجود عدالة انتقالية لذاكرة جديدة متصالحة مع الهوية القومية الوطنية. إلا أن الدولة الوطنية المغربية لم تحقق بعد هذا الانتقال ولم تحقق أية مصالحة. والهوية الوطنية لم تتسع لتشمل كل الذاكرات الهامشية، بل اقتصرت على ذاكرة الفئة المهيمنة على الحكم، واجتثت التاريخ واختزلت في أحداث معينة.

  • هيئة الانصاف والمصالحة في المغرب وسؤال العدالة الانتقالية:

        يتم تأسيس هيئة الانصاف والمصالحة كآلية من بين آليات أخرى كثيرة تعتمدها الدولة من أجل تحقيق عدالة انتقالية، بالتصالح مع الماضي الأليم وانتهاكات حقوق الإنسان، حيث “إن انهيار الأنظمة القانونية في بعض البلدان أو عـدم صلاحيتها أو أهليتها لأسباب ترتبط بالحروب والنزاعات والـثـورات والصراعات المسلحة أو بالاحتلال، يدفع إلـى إيجاد شكل انتقالي جديد للعدالة وصولا إلى الدولة القانونية، عبر قواسم مشتركة مبنية على كشف الحقيقة وتعويض الضحايا وجبر الضرر والتأسيس لمستقبل مختلف عن الماضي، ولا سيما بوضع أسـس جديدة للنظام القانوني أو بإصلاحه”.[13]

           لهذا الغرض شكل الملك محمد السادس هيئة للإنصاف والمصالحة يوم 07  يناير 2004 من أجل القيام “بالتحريات والتحقيقات الميدانية لكشف ماضي انتهاكات حقوق الإنسان في المغرب من 1956 إلى 1999 ورد الاعتبار للضحايَا وجبر الأضرار وصيانة الذاكرة الوطنية وتحقيق المصالحة المجتمعية الشاملة”[14]، حيث استغرق عمل الهيئة  23 شهراً.

        جاء في نظامها الأساسي الذي صودق عليه من طرف ظهير شريف: “انطلاقا من الخطاب السامي لجلالة الملك محمد السادس، بتاريخ 7 يناير2004 بأكادير، باعتباره مرجعا موجها لأعمال هيئة الإنصاف والمصالحة وأساساً مؤصلاً لمقاربتها، التي تتوخـى تعزيز وتقوية المكتسبات، والانتقال إلى حل باقي قضايا التسوية العادلة غير القضائية لماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وفق مقاربة شمولية، من أجل تضميد جراح الماضي وجبر الأضرار واستخلاص الحقائق والعبر لمصالحة المغاربة مع تاريخهم وذاتهم ومواصلة تحرير طاقاتهم”.[15]

       لقد نص النظام الأساسي للهيئة على مفهوم جبر الضرر على النطاق العام أو الجماعي، واسترجاع الثقة وتقويتها في حكم القانون واحترام حقوق الإنسان ورج الاعتبار. ومحو آثار الانتهاكات الجسيمة التي وقعت في الماضي، والبحث في تاريخ ووقائع العنف والاختفاء القسري والاحتجاز السري غير القانوني، من خلال تنظيم جلسات استماع عمومية وزيارات ميدانية وجمع للوثائق الرسمية وتصريحات الجهات المسؤولية واستقبال الشكايات والتواصل مع هيئات المجتمع المدني. مع حفظ وأرشفة الذاكرة وضمان عدم تكرار ما جرى.

       تتطلب المصالحة مع التاريخ أيضا إزالة العراقيل التي تحول دون البحث في هذا التاريخ، وتنظيم تراكم التجارب بين الأجيال، وترسيخ التواصل بينها بما يحفظ الذاكرة. مما يستوجب مراجعة شاملة لحالة الأرشيفات العمومية وتهيئ شروط إصلاح لوضعيتها.

        وتعد منطقة الشمال والمدينة الحسيمة بالأساس من المناطق التي عرفت أكثر انتهاكات حقوق الانسان في الماضي والتي كانت محور دراسة الباحث محمد السعدي وبعض المناطق المجاورة، وهي بالذات المدن التي اندلع فيها حراك الريف وكانت نواته الرئيسة.

       من بين الانتهاكات التي سجلتها هيئة الانصاف والمصالحة حول أحداث 1984 بالحسيمة: 4 قتلى وخمس جرحى وحدد وفاة 11 شخص وتم تحديد مقابرهم، إتلاف معتم لسجل الاستقبالات في المدينة لتلك الفترة. زيادة على أحداث أخرى وقعت في الشمال في نفس التاريخ، في منطقة كزايو وبركان و الناظور وتطوان و القصر الكبير …[16]، كما رصدت أضرار نفسية واجتماعية وتهميش وفقدان للمعيل وإقصاء ومنع أفراد من دخول المغرب….

          كما رصد الباحث محمد سعدي مجموعة من الانتهاكات التي تعرضت لها المنطقة خصوصاً “سنوات 1958 و1959 والتي كانت جزءاً من محاولة الإدماج القسري للمقاومة وجيش التحرير سيكون ثقلها كبير على الذاكرة الجمعية للمنطقة، حيث وثقت جزءاً من هذه الانتهاكات بشكل رسمي هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004. من بين الانتهاكات أيضاً هو الخميس الأسود ومقتل التلميذين فريد أكروح وسعيد بودفت وقت انتفاضة الخبز 1987″،[17] ثم مقتل محسن فكري…

        “فزيادة على التهميش الذي تعرض له تاريخ المنطقة وأعلامها خصوصاً المجاهد الكبير عبد الكريم الخطابي وموته ودفنه بعيداً عن البلد، وما تعرضت له من محاولات كثيرة من أجل الإدماج القسري؛ كل هذا كان محاولة لطمس الهوية الريفية التي عرفت تاريخاً زاهراً من النضال والمقاومة”[18].جاءت بعض التوصيات التي خرجت بها هيئة الانصاف والمصالحة بعد لقائها بالمجتمع المدني وبعض ساكنة الحسيمة من أجل جبر الضرر وتحقيق المصالحة، والتي تمثلت في:

  • إدراج دراسة لمرحلة 1958-1959 من طرف معهد تاريخ المغرب الموصَى بإنشائه.
  • متابعة الاتصالات مع عائلة محمد بن عبد الكريم بن محمد الخطابي قصد دراسة شروط إعادة رُفاته الى المغرب حسب رغبة العائلة والاقارب.
  • إعتبار منزل عبد الكريم الخطابي معلمة تارخية.[19]

          إلا أن المصالحة اقتصرت على جبر الضرر والتعويض المادي لبعض الافراد والجماعات، وتسوية بعض الأوضاع الوظيفية لبعض الأفراد وتسوية بعض الملفات الإدارية وإحالة بعض الحالات النفسية على الطبيب، كما تمت المطالبة بإعادة تأهيل وادماج مجموعة من الأفراد[20]. لكن البحث عن الحقيقة والتحقيق مع مرتكبي تلك الانتهاكات وجبر الذاكرة الجمعية فيما تعرضت له انتهاك للرموز وتهميشهم، وما تعرضت له المنطقة من وسم طيلة عقود وطمس لمجموعة من المعالم التاريخية، لم تبحث فيه الهيئة ولم تستطع رصده والكشف عنه.  

       أما فيما يتعلق بالإدماج الاجتماعي فقط تعلق فقط بالاستماع العلني لبعض الحالات والقيام ببعض الندوات العلمية. ولم يتم المصالحة مع الذاكرة الجمعية التي هي المصدر وخزان كل هذه الانتهاكات، من إعادة الاعتبار للمجاهد عبد الكريم الخطابي وكذا إحياء معالم المنطقة والأرشفة والإدماج في التاريخ الرسمي. كما لم تتحقق التنمية الاقتصادية للمنطقة التي أوصت بها الهيئة.

  • الحراك وسؤال الاعتراف:

         يذهب الكتاب إلى أن حراك الريف جاء كمحاولة لنزع الاعتراف من قِبل أبناء المنطقة، وهو نوع من الصراع لتحقيق المكانة الاجتماعية المستحقة. فقد ظهرت نظريات حديثة في العلوم السياسية تنظر لمفهوم الاعتراف والتعددية الثقافية وبناء الهوية الوطنية المشتركة، رداً على سياسات الدولة القومية التي سعت لبناء الهوية القومية والثقافية لمجموعة الأغلبية المهيمنة، وإقصاء ثقافة الأقلية وتهميشها سياسياً واقتصادياً. حيث كتب في الموضوع كثيرون؛ كتبت نانسي فريزر حول العدالة الاجتماعية في علاقتها مع الاعتراف بالهوية، وكتب ويل كيمليكا حول علاقة الاعتراف بالتعددية الثقافية، وكتب تشارلز تايلور حول سياسات الاعتراف، وكتب هابرماس حول مفهوم الفضاء العمومي، وكتب أكسيل هونيث حول الصراع من أجل الاعتراف.

        حيث يعد “الصراع من أجل الاعتراف” المفهوم الرئيس لدى الفيلسوف وعالم الاجتماع مدير معهد الأبحاث الاجتماعية في جامعة جوته في فرانكفورت الألمانية أكسيل هونيث “Axel Honneth”؛ فلتحقيق المصالحة الحقيقية مع الأفراد والجماعات لابد من ثلاث مستويات من الاعتراف؛ المستوى الأولى هو الحب، ذلك القوة العاطفية التي تجمع الفرد بالجماعة الأولى الاسرة والعائلة والمدرسة. والمستوى الثاني هو التساوي بين الأفراد داخل المجتمع بحيث تكون لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات والاعتراف بهم من طرف الدولة كمواطنين مستقلين أحرار، الذي يضمن ترسيخ قيم المواطنة. والمستوى الثالث هو التقدير الاجتماعي لهذا الفرد مما يجعله فاعلا في الحياة محققاً للتنمية.[21]

      يأتي “سؤال الحرية والتعددية والاعتراف سؤال حديث يتحدر من مبدأ تشكل الهوية الحديثة في ظل فلسفة التنوير، وتميزها بالاستقلال الشخصي والتحرر، وبوعي “الأنا” بدورها الذاتي في الجماعة، وبحاجة أن يصبغ عليها المجتمع الاعتراف”[22]، فالاعتراف بالجماعات وهوياتها المختلفة والاعتراف بالفرد والسماح بمزيد من الفردانية هو ما تنظر له العلوم السياسية الحديثة.

        لهذا فالاعتراف لابد أن ينال كل المكونات الثقافية للمجتمع، حيث الهوية الوطنية هي مركب مجموع الهويات المختلفة. فالاعتراف زيادة على أنه يطال كل مكونات المجتمع لابد أن يشمل بشكل قوي تلك الجماعات التي عانت الاضطهاد والتغييب إثر قيام الدولة القومية، وإعطائها فرصة للتواجد في المجال العام من أجل التعبير عن هوياتها، مما يعطي الحق للجميع في بناء الدولة الوطنية القومية.

       إلا أن مشكلة الدول العربية أنها لم تنشأ نتيجة صهر وتعاقد اجتماعي، بل نشأت نتيجة قمع للحريات الجماعية والفردية. وللانتقال الى الدولة الوطنية لابد له من عدالة اجتماعية تعترف بالجميع في إطار التعددية والاختلاف والتعبير الحر، مما يتيح الفرصة لانتقال ديمقراطي يشارك فيه الجميع.

        كما أن الاعتراف المعنوي يقتضي أيضاً الاعتراف السياسي والاقتصادي، فلا يمكن الحديث عن مصالحة شكلية في شخص هيئة تواصلت بشكل ضعيف مع بعض الفئات المتضررة، ولا تتعلق بجبر الضرر لفئات قليلة. فما تعيشه المنطقة من تهميش طيلة عقود كثيرة سياسياً واقتصادياً يحيل الى غياب هذا المفهوم، فالثروات والأعمال تتمركز في العاصمة السياسية والاقتصادية، أو محو طنجة الدار البيضاء في تقسيم واضح بين مغرب نافع ومغرب غير نافع.

        الذي جعل الشباب يتأرجح في المغرب غير النافع بين الهجرة عبر قوارب الموت أو الخروج للشارع والاحتجاج، الذي يقابله العنف المادي أو السجن. حيث المقاربة الأمنية هي من كانت حاضرة خلال التعامل مع كل الأحداث التي وقعت في المنطقة، وليست المقاربة التنموية التي توطد العلاقة بين الحاكم والمواطنين. مما يسائلنا عن صدقية الإرادة السياسية في تجاوز الماضي وبناء مغرب حديث، وأن بناء الديمقراطية يبدأ بالاعتراف أولا.

  • خلاصة واستنتاجات:

             تأتي دراسة الباحث محمد سعدي في إطار محاولات الباحث الجادة في الاعتراف بقضايا وطنه المهمة، خصوصاً القضايا التي يتم تهميشها من طرف السلطة الحاكمة. وهي محاولة أيضا لإعادة التوازن للظاهرة التي تم تهميشها سياسياً وإعلامياً وثقافياً، قضية لازال أبناؤها يقبعون خلف القضبان لا لشيء إلا بسبب تعبير عن الرأي. وهو ما يتطلبه دور المثقف في البحث في المواضيع الداعمة للمضطهدين والفئات الهشة، ودعم صوت المحرومين والمنبوذين.

          قد لا يفرق بعض الباحثين والمثقفين خصوصاً بين الموضوعية والحيادية؛ فما يتطلبه البحث من تحقيق للموضوعية مخالف تماماً لمفهوم الحيادية، فاختيار سؤال الانطلاق والكتابة في موضوع ما، يكون بدوافع بعضها ذاتي وآخر موضوعي؛ مادي أو قيمي أو مساهمة في تراكم معرفي. لهذا كل باحث يختار من المواضيع ما يناسب قناعاته الفكرية ليكتب فيها.

        فمقارنة مع الذين كتبوا في نقد الظاهرة أو الذين حاولوا الزج بها في صراعات حقيقية مع النظام وتوريطها في عدة قضايا سياسية، كالتأويل الذي أعطي لحمل العلم الريفي، أو التركيز على بعض مظاهر حرق العلم الوطني، أو وصف الحراك بالعمالة للخارج؛ كانوا كثُر.

       كما أن بعض الباحثين المغاربة حللوا ظاهرة الاحتجاج بمنطقة الريف بمنطق هوية الفاعل لا بمنطق هوية الضحية، بحيث ركزوا على ما تفعله الضحية لا على ما يفعله الجلاد، وهو خلل منهجي واضح فيه تبرير استعمال العنف غير الشرعي من طرف النظام من منطلق السيادة والحق في احتكار العنف، في المقابل نسيان أو تناسي حقوق الضحية في التعبير والتجمع والتظاهر السلمي.

       إن العدالة الانتقالية التي انطلقت مع العهد الجديد في محاولة لتجاوز الإرث الدموي القديم لم تحقق المصالحة الحقيقية مع المنطقة، حيث كان المفروض البحث عن الحقيقة الضائعة وراء تلك الانتهاكات، وتحميل المسؤولية لمنتهكيها الذين كانوا رجالات داخل الدولة أو قريبين من مراكز القرار، والاعتذار. حيث التعويض المادي وجبر الضرر غير كافيين لتحقيق المصالحة والاعتراف.

      كما ظلت المقاربة الأمنية هي المحدد الأساس للسلوك السياسي للنظام حتى بعد المصالحة الشكلية، وقد ظهر ذلك جلياً مع حراك الريف وحراك جرادة وما تعرض له المتظاهرون من اعتقالات وتعذيب. فقد كانت مطالب الساكنة بسيطة جداً تتعلق بالاعتراف برموزها خصوصاً المناضل عبد الكريم الخطابي، إلا أن هذا لم يتحقق.

         كما كان مطلب إدماج بعد الأحداث التاريخية لرموز المقاومة والمجاهدين وبعض الاحداث التي عاشتها المنطقة إبان لاستعمار الإسباني في الكتابة التاريخية الرسمية والتوثيق لها لبناء هوية وطنية.  إلا أن الكتابة الرسمية والارشفة لم تتم رغم أنها كانت من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة للحكومة.

       ففي كل مرة كانت تلتئم الجراح تعيد بعض الأحداث إحياءها من جديد ما دامت المصالحة لم تتم بشكل فعلي، وآخر هذه الاستدعاءات للذاكرة الجمعية كان مع حراك الريف في زعيمه ناصر الزفزافي.

        كذلك لا يمكن عزل حراك الريف عن النظام العام المغربي، حيث تتطلب المصالحة أيضاً انتقالاً ديمقراطياً يعترف بالحريات والحقوق الأساسية، مثل حريات التنقل والتعبير والتظاهر السلمي والتنظيم النقابي والسياسي والتجمع والإضراب واحترام الحياة الخاصة.

        كما أن بناء الأجيال وغرس حب الوطن وتقديم المصلحة العليا والخير العام على المصلحة الخاصة يبدأ أولاً بالاعتراف بالثقافات المتعددة، وهو الكفيل بالمضي قدماً نحو ديمقراطية حقيقية تسمح ببناء المشترك الوطني بعيداً عن النزاعات الماضوية التي أغرقت البلد في مستنقع لم يستطع الخروج منه لحد الآن، فالهوية اختلاف والوطن يسع الجميع.

            لقد تأكد أن هدف السلطة القائمة ليس تحقيق المصالحة الفعلية مع منطقة الريف وباقي المناطق المهمشة في المغرب، فما سعت إليه خلال حقود طويلة كانت محاولات لطمس الذاكرة باستعمال تاريخ رسمي، فهي دائما ما كانت تسعى لاغتصاب الماضي وتحويره ليتسنى لها اغتصاب المستقبل، فهي لا تريد من الاخرين أن يتذكروا ماضيهم وما يربطهم بالأرض والأجداد، بل تريد منهم نسيان كل شيء والمضي نحو هوية مغتصبة ناقصة. فكل مقارباتها للأزمات الاجتماعية والسياسية كانت مقاربات أمنية، ولم تسعى السلطة الرسمية يوماً للاعتراف بالريف وثقافته، بل كانت تسعى للإقصاء والتهميش.

        هنا يتجلى دور المثقف العربي في مساندة الهويات المستلبة وانتزاع الاعتراف، بالثقة أولا في إرادة الشعوب العربية، وثانياً أن يكون في مقدمة المنظرين للمتغيرات الكبرى، بأن تكون له رؤية واضحة يرسم من خلالها مسار مجتمعه، وهو ما ساهمت فيه العلوم الإنسانية والاجتماعية من تطوير لمجتمعاتها في سياقها الغربي.


[1]– بوعزيزي محسن، السيميولوجيا الاجتماعية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010، ص 13.

[2]– زهير سوكاح، ” نظريات الذاكرة الجمعية وتطورها في ميادين العلوم الانسانية”. مجلة  Dragoman: العدد 2. يونيو 2017.

[3] -نفسه.

[4] زهير  سوكاح. السياسة والذاكرة الجمعية: علاقة تنافر أم تجاذب. مجلة الناقد للدراسات السياسية. العدد الأول. أكتوبر- 2017.

[5]– محمد مرقطن. ذاكرة المكان: أسماء المدن والقرى الفلسطينية ما بين الاستمرارية التاريخية والطمس الصهيوني. مجلة تبين: العدد – 33المجلد التاسع – صيف 2020.

[6]– محمد سعدي. حراك الريف: ديناميات الهوية الاحتجاجية دراسة ميدانية. سليكي أخوين- طنجة. الطبعة الأولى 2019. ص 35-36.

[7] حسام الدين علي مجيد. إشكالية التعددية في الفكر السياسي المعاصر: جدلية الاندماج والتنوع. عالم المعرفة. ص 83-84.

[8] -محمد سعدي. م س. ص 41.

[9] -محمد مرقطن. ذاكرة المكان: أسماء المدن والقرى الفلسطينية ما بين الاستمرارية التاريخية والطمس الصهيوني. مجلة تبين: العدد – 33المجلد التاسع – صيف 2020.

[10] -صوفية حنازلة. خطاب العدالة الانتقالية في تونس وصناعة التصنيفات مصفوفة زمان/ مكان/ جسد/ ذاكرة. مجلة تبين: العدد – 33 المجلد التاسع – صيف 2020.

[11]– وجيه كوثراني. الذاكرة من منظور مؤرخ. مجلة تبين: العدد- 33المجلد التاسع – صيف .2020.

[12] -نفسه.

[13] -شعبان عبد الحسين. أسئلة الذاكرة وآليات الصفح، مجلة يتفكرون، العدد 2. خريف 2013. ص 60.

[14] -التقرير النهائي لهيئة الانصاف والمصالحة، رفع في 30 نونبر 2005، رفعه رئيسها السيد إدريس بنزكري إلى الملك محمد السادس. ويكي مصدر. https://ar.wikisource.org/wiki/

[15]– الجريدة الرسمية عدد 5203 ب12/04/2004 الصفحة 1639: http://adala.justice.gov.ma/production/html/Ar/86297.htm

[16] -أنظر التقرير الختامي لهيئة: الكتاب الثاني من التقرير: ذاكرة، مركز حقوق الانسان للذاكرة و الأرشيف: https://dakira.org

[17]– محمد سعدي. حراك الريف: ديناميات الهوية الاحتجاجية دراسة ميدانية. سليكي أخوين- طنجة. الطبعة الأولى 2019. ص 49.

[18] -نفسه. ص 50.

[19] -الكتاب الثالث. من التقرير: ذاكرة، مركز حقوق الانسان للذاكرة و الأرشيف: https://dakira.org. ص 109.

[20] -نفسه.

[21]-حوار مع الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث: الصراع مع القيم العالمية مغامرة ناقصة. أجراه معه ألكسندرا ل. لافاستين. ترجمة نور الدين علوش. مؤمنون بلا حدود. https://www.mominoun.com/articles/

[22] -جدعان فهمي. كلمة افتتاح: أسئلة الحرية هنا..الآن. ضمن؛ الحرية في الفكر العربي المعاصر ، مجموعة مؤلفين. المركز العربي. الطبعة الأولى 2018. ص 56.

قائمة المراجع:

  1. محمد سعدي. حراك الريف: ديناميات الهوية الاحتجاجية دراسة ميدانية. سليكي أخوين- طنجة. الطبعة الأولى 2019.
  2. حسام الدين علي مجيد، إشكالية التعددية في الفكر السياسي المعاصر: جدلية الاندماج والتنوع. عالم المعرفة.
  3. جدعان فهمي. كلمة افتتاح: أسئلة الحرية هنا..الآن. ضمن؛ الحرية في الفكر العربي المعاصر، مجموعة مؤلفين. المركز العربي. الطبعة الأولى 2018.
  4. بوعزيزي محسن. السيميولوجيا الاجتماعية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010.
  5. زهير سوكاح، ” نظريات الذاكرة الجمعية وتطورها في ميادين العلوم الانسانية”. مجلة Dragoman: العدد 2. يونيو 2017.
  6. حوار مع الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث: الصراع مع القيم العالمية مغامرة ناقصة. أجراه معه ألكسندرا ل. لافاستين. ترجمة نور الدين علوش. موقع مؤمنون بلا حدود. https://www.mominoun.com/articles/
  7. زهير سوكاح. السياسة والذاكرة الجمعية: علاقة تنافر أم تجاذب. مجلة الناقد للدراسات السياسية. العدد الأول. أكتوبر 2017.
  8. محمد مرقطن. ذاكرة المكان: أسماء المدن والقرى الفلسطينية ما بين الاستمرارية التاريخية والطمس الصهيوني. مجلة تبين: العدد – 33المجلد التاسع – صيف 2020.
  9. حسام الدين علي مجيد. إشكالية التعددية في الفكر السياسي المعاصر: جدلية الاندماج والتنوع. عالم المعرفة.
  10. صوفية حنازلة. خطاب العدالة الانتقالية في تونس وصناعة التصنيفات مصفوفة زمان/ مكان/ جسد/ ذاكرة. مجلة تبين: العدد – 33 المجلد التاسع – صيف 2020.
  11. وجيه كوثراني. الذاكرة من منظور مؤرخ. مجلة تبين: العدد- 33المجلد التاسع – صيف .2020.
  12. شعبان عبد الحسين. أسئلة الذاكرة وآليات الصفح، مجلة يتفكرون، العدد 2. خريف 2013.
  13. التقرير النهائي لهيئة الانصاف والمصالحة، رفع في 30 نونبر 2005، ويكي مصدر. https://ar.wikisource.org/wiki/
  14. الجريدة الرسمية عدد 5203 ب12/04/2004 الصفحة 1639: http://adala.justice.gov.ma/production/html/Ar/86297.htm
  15. الكتاب الثاني من التقرير: ذاكرة، مركز حقوق الانسان للذاكرة و الأرشيف: https://dakira.org
  16. الكتاب الثالث. من التقرير: ذاكرة، مركز حقوق الانسان للذاكرة و الأرشيف: https://dakira.org.